المقصود بالتوبة :
ومعنى التوبةِ هي الرجوع إلى الله والإنابةُ إليه من فعل المحرّم والإثم، أو من ترك واجب أو التقصير فيه، بصدقِ قلبٍ وندمٍ على ما كان.وتجب التوبة من الذنوب فوراً وهي الندم والإقلاع والعزم على أن لايعود إليها وإن كان الذنب ترك فرض قضاه أوتَبعة لآدمي قضاه أو استرضاه. والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق به الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّهاالله؛لأنّ العبد إذا أحدث لكلّ ذنبٍ يقع فيه توبةً كثُرت حسناته ونقصت سيّئاتُه،قال الله تعالى: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان:68-70].
أنواع التوبة:
والتوبة قد تكون كاملة وقد تكون غير كاملة. والتوبة الكاملة هي الرجوع عن جميع المعاصي. وأما الناقصة غير الكاملة فهي أن يتوب العبد من بعض معاصيه دون بعض.
والتوبة إما توبة نصوحاً وإما غير نصوح.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. التحريم/8
فالتوبة النصوح هي أن يتوب الإنسان من الذنوب ولا يعود إليها.
وأما التوبة غير النصوح فهي أن يعود إلى الذنب بعد أن يكون قد تاب منه.
وسوف اتحدث الان عن التوبة النصوح بالتفصيل ..
ما التوبة النصوح ؟
جاء في الآية الكريمة المتعلقة بالتوبة النصوح خطاب إلى المؤمنين: (يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (التحريم:
. هناك ثلاث كلمات يجب الوقوف عندها في هذه الآية وهي الإيمان، التوبة والنصوح.
الكلمة الأولى هي الإيمان، والإيمان هو قبول الإسلام ككل، والإقرار به لساناً والتصديق به قلباً. فإن لم يتم الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لا يكون الإنسان مؤمناً. المهم بالنسبة إلينا هو المعنى الشرعي للإيمان. ومع ذلك فإن تناولنا المعنى اللغوي للإيمان عرفنا أن كل من يؤمن بالله تعالى يدخل في أمانه. أجل! فالإنسان لا يتخلص من حوادث الدنيا ومشاكلها الكبيرة كبر الجبال ولا من قبضة عذاب الآخرة وويلاتها التي لا تعد مصائب الدنيا بجانبها شيئاً يذكر إلا بالإيمان.
الكلمة الثانية هي التوبة. والتوبة تعني تجديد الإنسان لنفسه وإصلاحا داخليا له، أي إعادة التوازن للقلب الذي فقد توازنه نتيجة الإنكار والتصرفات المنحرفة، أي هروب الفرد من الحق إلى الحق، وبتعبير أدق هروبه من غضب الحق إلى لطفه، ومن حسابه إلى رحمته وعنايته، واللجوء إليه. ويمكن تعريف التوبة أيضا بأنها محاسبة الإنسان لنفسه نتيجة شعوره بالاثم، أي قيام الإرادة بالوقوف أمام النفس ضد استمرار الحياة دون شعور بالمسؤولية، والوقوف أمام الآثام الكبيرة وعدم إعطاء الإذن لها بالمرور.
فإذا كان الإثم يشبه التدحرج إلى هاوية دون ضابط، كانت التوبة هنا هي لملمة النفس والخلاص من هذا التدحرج بقفزة إلى الخارج. وبتعبير آخر فإن الإثم هو إصابة الوجدان والروح بجرح مؤقت نتيجة عدم المراقبة والمحاسبة. أما التوبة فهي شعور بالألم المحيط بالقلب، والقيام بمحاسبة النفس ومراقبتها واكتساب الحواس قوّة جديدة وطاقة جديدة. ولما كان الإثم نتيجة لتحكم وغلبة الشيطان وأهواء النفس على الإنسان كانت التوبة هي دفاع الحواس ضد الشيطان، وهي محاولة إعادة التوازن والتناغم إلى الروح.
وبينما يقوم الإثم بعملية تآكل وتعرية للروح كانت التوبة وقوفاً ضد هذه العملية بعملية تعمير مضادة بالكلمة الطيبة. لذا فما أجلّ وما أعظم التوبة التي تحرك القلب من قبل أن يأتي اليوم الذي تندهش فيه القلوب والأبصار. فيا ليتنا كنا موفّقين في سدّ كل ثغرة يفتحها الإثم بأنين التوبة وبكائها.
يولد الإنسان طاهراً من كل ذنب ومن كل اعوجاج. والذين ينحرفون عن فطرتهم وعن الطريق القويم يكونون قد قذفوا أنفسهم إلى تربة لا تنبت، لذا فمصيرهم المحتوم هو التفسخ هناك، لأن الآثام تعد عوامل تفسخ للإنسان. وهناك آية حول رجوع الإنسان إلى ربه بعد اقترافه الإثم: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا) (الزمر: 54). والإنابة هي العودة والرجوع. إذن فالتوبة هي الرجوع إلى الأصل النقي بعد التلوث بالإثم. والحديث الشريف يقول: ”إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِلَ قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى يعلو قلبه الران الذي ذكره الله تعالى: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)".
أي إن فكرة اقتراف الإثم تكون قد بدأت بالتوسع في دماغه، تماماً مثل الشخص الذي بدأ ينزل سلماً. فهو ما أن ينزل درجة حتى يتهيأ للدرجة الثانية، وما أن ينزل الثانية حتى يتهيأ للثالثة، وهكذا فما أن يعتاد الشخص على اقتراف الإثم حتى يفقد الحياء فيسهل عليه اقتراف آثام وموبقات عديدة فيستمر في النزول والهبوط إلى أسفل السافلين. لذا قال أحد الحكماء ”لكل إثم طريق يؤدي إلى الكفر“. والتوبة هي سدّ الطريق أمام مثل هذا الهبوط وتغيير الوجهة للصعود إلى الطريق المؤدي إلى الله تعالى، وبذل الجهد في هذا السبيل.
التوبة هي رجوع الإنسان إلى رَبِّه مرة أخرى بعد ضلاله وانحرافه عن الطريق، ولذا نرى أن الرسول صلى الله عليه و سلم يقول في حديثه الذي يورده البخاري ومسلم: "للهُ أشدّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فَلاةٍ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته. فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح"1
ولا شك أننا لا نستطيع إسناد كلمة ”الفرح“ الواردة في الحديث بمعنى الفرح المعروف لدينا إلى الله تعالى. فهذه الكلمة تفيد هنا معنى آخر يليق بصفة ”الغنى المطلق“ لله سبحانه وتعالى، ونعجز نحن طبعاً عن إدراك هذا المعنى، ولكننا نفهم أن الله تعالى يبدي رضاءه لتوبة عبده، وهذا هو المهم.
هناك وجهتان للتوبة: الأولى متوجهة لنا، والثانية متوجهة لله تعالى. ولهذا المعنى يشير الرسول صلى الله عليه و سلم عندما يقول: "ويتوب الله على من تاب"2 فتوبتنا متوجهة نحو الله تعالى، وتوبة الله متوجهة برحمته نحونا حيث يفتح بابه من جديد لنا. عندما ننحرف عن الطريق تنسد جميع النوافذ بيننا وبين الله وجميع المنافذ، ثم نندم ونتحسر ”لماذا عملنا هذا؟ لماذا انحرفنا إلى طريق مضاد لفطرتنا؟“ وبينما نكون منغمرين في مشاعر الندم إذا بنا نحس بأن النوافذ والمنافذ قد انفتحت لنا من جديد. فالخطوة الأولى كانت توبتنا وبدايتها النية والندامة. أما الثانية فهي توبة الله علينا حيث فتح أمامنا الأبواب والمنافذ قائلاً: يا عبادي! انا لم أنسكم ولم أترككم... وما دمتم تذكرونني فإنني أتقبل توبتكم وإن تكرر منكم نكث العهد. أجل، فهو أرحم الراحمين، لذا فمهما عملنا من سوء، علينا ألا ننسى الالتجاء إليه قائلين ”يا أرحم الراحمين ارحمنا... يا غفور يا غفّار اغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا...“
والكلمة الثالثة هي ”النصوح“ وهي اسم فاعل على وزن ”فعول“ وتفيد المبالغة. ومعناها المبالغة في نصح النفس وفعل الخير. وتأتي من جذر ”النصيحة“، والنصيحة هي إرادة الشخص خير الآخرين والتفكير الحسن والرؤية الحسنة. وعندما نقول: ”الدين النصحية“ نقصد التوجه لخير الآخرين ومحبة الخير لهم، والأخذ بأيديهم لمنع انحرافهم. لذا كانت الدعوة إلى الله وإلى رسوله من موجبات هذا الأمر. لذا نطلق اليوم على الكادر النوراني الذي يدعو إلى الله اسم ”جيش القدسيين“ بتعبير السيد المسيح عليه السلام. وهؤلاء الجنود إن انفطرت السماء فوقهم، وتزلزلت الأرض وانشقت تحت أقدامهم فلن يتخلوا أبداً عن خدمة الإسلام، بل يستمرون كالأبطال في الدعوة وإن كان القبض على الدين قبضاً على جمرة من النار.
أجل، إن الدعوة إلى الله وإلى الرسول وإلى القرآن وإلى الدين الإسلامي وبعث الاطمئنان في القلوب الخالية منه وبعث فكرة الآخرة وجمالها في القلوب التي نسيت الآخرة ويئست منها، وإيقاد الشوق لرؤية جمال الله تعالى في الآخرة والتي تعدل دقيقة واحدة منها آلاف الأعوام من حياة الجنة.. كل هذا الأمر يمكن تلخيصه بكلمة حب الخير، وداخل ضمن ”النصيحة“ الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه و سلم من أن ”الدين النصيحة“. وكما ذكرنا فإن كلمة ”النصوح“ تعني المبالغة في حب الخير.
وعلى الإنسان أن يحب الخير أولاً لنفسه، وأن يحفظ أولاً نفسه من جميع الشرور والآثام. وحفظ النفس ركن من الأركان الخمسة للحقوق. لذا كان على الإنسان أن يحفظ نفسه من الخمر ومن الزنا ومن الكفر ومن الضلالة. وكل واحد من هذا له علاقة بأحد ”الأصول الخمسة“ أي على الإنسان أن يحفظ نفسه من أن يكون حطباً لجهنم. فإن عاش كحطب حشر كحطب، ومصير الحطب معروف، والقرآن الكريم يقول إنهم حطب جهنم. لذا كان على كل إنسان أن يكون ذا رغبة قوية في إرادة الخير لنفسه ولا يتم هذا إلا إذا كان حساساً ضد جميع الآثام. أما درجة إرادة الخير هذه فيجب أن تكون بحيث يكره أن يعود إلى الكفر وإلى الضلالة –بعد أن نجاه الله منهما– مثلما يكره أن يقذف في النار.
ومع كل هذا فقد تزل قدم الإنسان. في هذه الحالة ليس أمامه إلا العودة إلى عقله وضميره والقول ”إنني لم أصل إلى هذا الوضع إلا لابتعادي عن الله، إذن فلا خلاص لي إلا بالرجوع إليه“. يقول هذا ثم يجتهد في تقوية صلته بالله تعالى. وهذا الجهد يشكل جانباً من التوبة النصوح.
والجانب الآخر منها هو ألا يعود الإنسان إلى آثامه السابقة. لأن من يطلب الخير لنفسه لا يفعل هذا. فكما يتمنى الإنسان لأولاده الخير على الدوام ويرغب أن يكون مستقبلهم زاهراً، كذلك يجب أن يريد الخير لنفسه على الدوام. لذا عليه أن يحاول ألا يدخل إلى الأثم منذ البداية، وأن يعد ابتعاده عن الله تعالى جرماً كبيراً وهوة واسعة يصعب سدّها. إن فعل هذا كانت توبته توبة نصوحاً. والله تعالى يقول: (تُوبُوا إلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي يقول للمؤمنين إنكم بإيمانكم تقفون على أرض آمنة، وبهذا الإيمان استطعتم التفريق بين الأسود والأبيض وبين الخير والشر. لقد آمنتم بالله ووثقتم به واستندتم إليه، فإن زللتم أو انحرفتم لحظة عن الطريق فلا تقعوا في اليأس أبداً، لأن الله تعالى يغفر كل شيء عدا الشرك: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48). لذا يجب ألا تبقوا في الموضع الذي سقطتم فيه، بل عليكم الندم على زلتكم والتوجه إلى الله تعالى لكي تجدوا أنفسكم وترجعوا إليها، وهذه هي التوبة النصوح على ما أعتقد.
وللتوبة النصوح شروط منها:
1– إن كان الذنب متعلقاً بحق من حقوق العبد، فيجب إعطاء الحق إلى صاحبه أولا والاعتذار إليه وطلب العفو منه.
2– عقد العزم على عدم العودة إلى الذنب نفسه مرة أخرى.
3– يجب عدم إفساح فسحة من الوقت بين الذنب الذي تمت التوبة منه وبين ذنب ثان، أي يجب ألا تبقى الذنوب دون توبة –كلما كان ذلك ممكناً– ولو لمدة خمس دقائق.
والبعد الآخر للتوبة هو أن الذنب يجب أن يحدث ألماً في الروح ونفوراً في الضمير واشمئزازاً. لأن الإنسان إن اعتاد على اقتراف الذنوب ولم يشعر بألم تجاهها، فإنه إن تاب توبة بلسانه فقط فلا يعدّ هذا توبة بل تكون عبارة عن حركات آلية وعن تلفظ بعض العبارات الخالية من الفائدة. لأن التوبة عبارة عن ألم محض يحسُّهُ الضمير بحيث يجعل الإنسان يتلوى منه. أما التلفظ بالتوبة باللسان فيأتي بعد هذا الإحساس بالندم وبالألم، أي أن التوبة ليست إلا ترنّماً بالندم والألم، ولكن بشرط أن تتعلم كيفيته من صاحب الشريعة الرسول صلى الله عليه و سلم فتقول: ”استغفر الله العظيم الكريم الذي لا إله الا هو، توبة عبد ظالم لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا نشوراً“. وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن على الذي ينوي التوبة أن يقوم ويصلي ركعتين، ثم يضع جبهته على الأرض قائلاً من كل قلبه ”يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين“ أو أدعية مثل هذا الدعاء، أي القيام بالتعبيرعن ندمه بمثل هذه الأدعية.
وهناك دعاء مأثور عن الرسول صلى الله عليه و سلم يطلق عليه ”سيد الاستغفار“ يدعى به صباحاً ومساءً وهو: ”اللّهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت“. وقد أضاف بعض السلف "ياغفار، يا غفور" بعد كلمة "أنت" الواردة في الدعاء. ومع أن هذه الإضافة غير واردة في دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم إلا أن إضافة اسمين من أسماء الله الحسنى للشفاعة شيء جميل.
أجل، إن التوبة هي شعور القلب بالندم. وقيامنا بالاستغفار بهذه الأدعية وغيرها لا تكون مقبولة إلا مع هذا الشعور بالندم. لذا فإن قلنا بلساننا ”أستغفر الله أستغفر الله العظيم الكريم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه“ من دون إحساس وشعور مرافق لهذه الكلمات صادر من أعماق نفوسنا فإن استغفارنا يكون عبثاً. فعلى الإنسان في الأقل التعبير عن ذنوبه أمام الله تعالى تعبيراً صادقاً من ضميره. لأننا عندما نتوب لا نقوم بعمل هازل ولا بإجراء مراسيم ميتة ولا بفعالية فولكلورية، بل نقوم بإبداء شعور صادق بالندم أمام الله سبحانه وتعالى.
وأخيراً نود الإشارة إلى أن شعائر تجديد النكاح والإيمان التي يقوم بها البعض في المساجد لا أساس لها ولا تكسب الكلمات الواردة فيها المؤمن شيئاً. فموضوع مهم كموضوع النكاح القائم على قواعد جدية لا يفيد فيه أن نقول "إني أفكر في القيام بتجديد نكاحي وإيماني"، كما أن هذه الجملة معرضة للنقد من ناحية اللغة أيضاً، لأنه لا يقول صراحة أنه يريد التجديد، بل يقول إنه يفكر في هذا وربما قام به في المستقبل. وهذا –أعاذنا الله– تعبير خطر جدا. لأن الإنسان إن كان قد تلفظ بكلمة الكفر عن وعي أو دون وعي عليه أن يجدد إيمانه حالا ودون أي تأخير. والحل الوحيد لهذا هو التلفظ بكلمة الشهادة نابعة من أعماق قلبه فيقول "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"، وهذا لا يتحمل التأخير. ولا فائدة من إشغال المسلمين أو التسرية عنهم بأمور غير جدية. يجب أن نتوب توبة جدية، وأن نهتز من قلوبنا لكل خطأ أو زلة فنتوجه إلى الله، وأن نفعل كل هذا ضمن الإطار الذي رسمه لنا رسولنا صلى الله عليه و سلم.
وأما شروط التوبة فهي التي لا بد منها لقبول التوبة عند الله وهي:
1 ــ الإقلاع عن المعصية أي تركها فيجب على شارب الخمر أن يترك شرب الخمر لتُقبل توبته والزاني يجب عليه أن يترك الزنا، أما قول: أستغفر الله. وهو ما زال على شرب الخمر فليست بتوبة.
2ــ العزم على أن لا يعود لمثلها أي أن يعزم في قلبه على أن لا يعود لمثل المعصية التي يريد أن يتوب منها، فإن عزم على ذلك وتاب لكن نفسه غلبته بعد ذلك فعاد إلى نفس المعصية فإنه تُكتب عليه هذه المعصية الجديدة، أما المعصية القديمة التي تاب عنها توبة صحيحة فلا تكتب عليه من جديد.
3 ــ والندم على ما صدر منه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة« رواه الحاكم وابن ماجه.
4 ــ وإن كانت المعصية تتعلق بحق إنسان كالضرب بغير حق، أو أكل مال الغير ظلمًا، فلا بدّ من الخروج من هذه المظلمة إما برد المال أو استرضاء المظلوم؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من كان لأخيه عنده مظلمة، فليتحلله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم« رواه مسلم رحمه الله.
5 ــ ويشترط أن تكون التوبة قبل الغرغرة، والغرغرة هي بلوغ الروح الحلقوم، فمن وصل إلى حدّ الغرغرة لا تقبل منه التوبة، فإن كان على الكفر وأراد الرجوع إلى الإسلام لا يقبل منه، وإن كان فاسقًا وأراد التوبة لا يقبل منه؛ وقد ورد في الحديث الشريف: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر« رواه الترمذي وقال حديث حسن.
ويشترط أن تكون قبل الاستئصال، فلا تقبل التوبة لمن أدركه الغرق مثل فرعون لعنه الله
وكذلك يشترط لصحتها أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، لما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إن في المغـــرب بابًا خلقــه الله للتوبة مسيرة عرضه سبعون عامًا لا يُغلق حتى تطلع الشمس منه« رواه ابن حبان.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه« رواه مسلم.فمن أراد الله به خيرًا رزقه التوبة النصوح والكاملة والثبات عليها حتى الممات.
إن الله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين فلا يقنطن المؤمن من رحمة الله وليتُبْ إليه مهما بلغ عظم ذنوبه؛ فقد وردت قصة عن مسلم من بني إسرائيل قتل مائة إنسان ثم سأل عالمًا: هل لي من توبة؟ قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة، اذهب إلى أرض كذا فإن بها قومًا صالحين، يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك بصورة ءادمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية في الصحيح: فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها، وفي رواية فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له.